وضحة العثمان
واجهت العائلات السورية تحديات صعبة في ظل الحرب والنزوح بحثاً عن الأمان، ووجدت العديد من العوائل نفسها وجهاً لوجه مع مجتمعات وظروف حياتية جديدة، وأوضاع مادية صعبة تعجز خلالها عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة، فضلاً عن ندرة فرص العمل، ما دفع بكثير من النساء إلى دخول سوق العمل بحثاً عن خيارات بديلة لتأمين دخل إضافي يساعدهن في تأمين حياة كريمة لهن ولعوائلهن.
وقد أثبتت المرأة السورية أنها أقوى من كل التحديات، وكانت “نجاة علي عبد القادر” – سيدة سورية من مدينة حلب متزوجة وأم لولدين أحدهما في الثانية والعشرين من عمره والآخر في الثامنة عشر -، نموذجاً عن المرأة التي وجدت نفسها جزءاً من تلك المعركة التي لا خيار فيها إلا الانتصار على الرغم من تقدمها في العمر.
(نجاة) كانت تعمل مدرسة لمادة الرياضيات في مدينة حلب قبل أن تفرض عليها الظروف أن تتحول إلى لاجئة في تركيا، لتجد نفسها مثل آلاف السوريين في مواجهة حياة صعبة وواقع معيشي متردي فرض عليها أن تدفع بأولادها الصغار للعمل وترك المدرسة سعياً وراء لقمة العيش.
واقع (نجاة) وأولادها خلف لديها حالة نفسية صعبة، وغصة كبيرة فهي المعلمة وكان من الصعب جداً عليها أن ترى أطفالها يتحولون إلى عمال في حين أن أقرانهم على مقاعد الدراسة، الأمر الذي جعلها تدخل بحالة من الاكتئاب واعتزال الناس والمجتمع، غير أن ذلك ولد لديها بالوقت نفسه مزيداً من الإصرار على مواجهة الحياة والبحث عن خيارات أكثر أمناً واستقراراً لها ولأطفالها.
(نجاة) بقيت خلال رحلة لجوئها في تركيا لأكثر من خمسة أعوام بلا عمل، وازدادت عليها ضغوط الحياة ومشكلاتها وفاقمت عليها أيضاً مشكلة اللغة الوضع أكثر، لكنها في نهاية الأمر قررت أنه لا بد من مواجهة الظروف بقوة، فعاودت الانطلاق لتثبت للمجتمع الجديد حولها أن المرأة السورية بإمكانها النجاح، وأنها قادرة على صناعة المستحيل مهما كانت الظروف صعبة وقاسية.

وفي حديث مع السيدة نجاة قالت لموقع (هيومن نيوز) : “كانت بداية مغامرتي عبر شبكة الأنترنت، فهي السبيل الوحيد الذي يؤمن لي اتصال بالمجتمع، فبحثت عن خيارات يمكنني من خلالها عمل شيء، ووجدت فن (الأميجرومي) خياراً مناسباً ينسجم وظرفي لانطلق منه، ويكون لي مشروع يلبي شيء من رغباتي ويحقق شيء من احتياجاتي”.
و”الأميجرومي” هو عبارة عن فن ياباني يقوم على دمج الكروشيه العادي والتقليدي مع شيء جديد مطور بطريقة جميلة، وكلمة “أميجورومي” مشتقة من كلمات يابانية تعنى الكروشيه، والدمية المحشوة، وهو فن يختلف في الحجم وليس هناك قيود حول حجمه وشكله.
وتضيف (نجاة): “من خلال متابعتي وسعيي استطعت الوصول إلى منظمات تقدم دورات تدريبية لتعليم فن الرسم ثلاثي الأبعاد لأنه ضروري وأساسي في فن “الأميجرومي”، وخلال فترة قصيرة اتقنت هذا النوع من الرسم، وشاركت بعدد من المعارض التي تعرفت من خلالها على الكثير من الأشخاص الذين شكلوا لي دعماً وسنداً لمواصلة مشواري”.
ومع مرور الوقت أصبحت (نجاة) قادرة على تأمين دخل قليل من وراء العمل الجديد، ثم عملت على تطوير الأمر وأصبح لها صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي تعرض خلالها منتجاتها فتسارعت خطى النجاح، ثم بدأت بتطوير نفسها في مجال ترويج المنتجات وتسويقها وكانت تلك أكبر الصعوبات التي واجهت (نجاة) في البداية.
إصرار (نجاة) وعزيمتها على إنجاح مشروعها الجديد تكلل بالظفر شيئاً فشيئاً، واستطاعت من خلال الجهود الفردية الكبيرة التي بذلتها لأشهر ومشاركاتها بكثير من المعارض أن تثبت نفسها بقوة، وأن يكون لها كثير من الزبائن الذين يحرصون على شراء هذا النوع من الدمى، ثم وصل الأمر بها لتسويق منتجاتها ليس في تركيا وحسب بل في عدد من الدول الأخرى.
وتقول (نجاة): “عملي الجديد هذا ساعدني على تحسين مستوى معيشتي، حيث بدأت أحصل على دخل جيد، وانتقلت من حالة الفقر والحاجة إلى الاكتفاء الذاتي لي ولعائلتي، وتمكنت فورا من إعادة أطفالي إلى مقاعد الدراسة”.
وتابعت حديثها: “تمكنت أيضاً من خلال النجاح الذي حققته الدخول في المجتمع التركي، وطلب مني أن أعطي كورسات تدريبية عن الفن الذي بت أتقنه بكل مهارة، وانعكس ذلك بدوره على تعلمي اللغة التركية من خلال ممارستها مع المتدربين، وأعطاني فرصة أكبر للاندماج مع المجتمع التركي”.
غير أن حلم (نجاة) على الرغم من تقدمها في العمر لم يقف عند حد معين، فهي تسعى الآن وتعمل جاهدة على إنشاء أكاديمية تعلم من خلالها النساء هذا الفن ولا سيما اللاجئات السوريات، لتحولهن من عاطلات عن العمل ومستهلكات إلى منتِجات يعتمدن على أنفسهن في تدبر أمورهن المعيشية، وكذلك لتساهم في تطوير منتجاتها وإيصالها إلى أسواق ودول أخرى.
هذا وبدأت خطوات حلمها الأخير من خلال مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أنشأت مجموعة على (واتساب) أسمتها “أكاديمية المرأة العاملة” لتساعد النساء الراغبات في إتقان المهن وعرض وتسويق البضائع على اختلاف أنواعها، إلا أنها تطمح في المرحلة المقبلة لنقل التجربة على أرض الواقع، فبحسب ما ترى (نجاة) إن مساعدة الآخرين في هذه الظروف الصعبة يجب أن تكون أولوية.
وختمت (نجاة) حديثها: “لقد تعلمت من تجربتي أن الإنسان قادر بما أعطاه الله من قدرات عظيمة على الانطلاق مجدداً شرط ألا يستسلم لليأس، ويجعل من الحرب والتهجير شماعة يعلق عليها فشله، وأننا قادرون دائماً على النجاح في أي بيئة أو مجتمع تسوقنا الأقدار إليه، شرط أن تتوفر فينا الإرادة والتصميم على النجاح”.
بالتوفيق نجاة الدائم والمستمر