وضحة عثمان
مازال الاعتقال هاجس رعب وهلع يخيم على السوريين شباباً وأطفالاً وشياباً، ولعل النساء ظللن الحلقة الأضعف والخاسر الأكبر في سجون الأسد التي غصت بالمعتقلين خلال السنوات العشر الماضية، وكانت تجربة الاعتقال هي أسوأ ما مر به للمواطن السوري الذي قدر له النجاة، لما خلفه من آثار ستظل مرافقة له طوال حياته، ولعل آثار الاعتقال الأشد قسوة وألم لدى آلاف النساء المعتقلات واللواتي ما زال بعضهن في السجون حتى الآن، حيث أحصت الشبكة السورية لحقوق الإنسان حوالي 10 آلاف امرأة ما يزلن معتقلات ومختفيات قسراً على أيدي أطراف النزاع في سورية، منهن أكثر من 8 آلاف في سجون النظام، ولكل امرأة منهن تجربتها المريرة وحكايتها التي تفيض ألماً وعذاباً وفظاعة، ولعل حكاية السيدة “سلمى سيف” واحدة من القصص الحية الشاهدة على جريمة مازلت مستمرة بحق الشعب السوري حتى الآن.
مثلت سلمى واحدة من التجارب النسائية التي كانت وما زالت فاعلة في الحراك الثوري، الذي شهدته سوريا واستطاعت أن تثبت أن الدور الذي قامت به المرأة السورية يتناسب تماماً مع حجم الحراك الشعبي منذ البداية وعلى جميع الأصعدة، رغم تحول حياتها فيما بعد إلى رحلة محفوفة بالخوف والخطر والألم، حيث بدأت معتقلة في سجون الأسد وانتهت مهجرة عن بلدها حي القابون إلى الشمال السوري.
وفي حديث لموقع هيومن نيوز عن تجربتها خلال الثورة السورية قالت (سلمى): “بعد اندلاع المظاهرات المطالبة بالإصلاحات في شوارع سوريا، توقعنا من النظام الاستجابة لاسيما أن رئيسه كان شاباً لطالما توسمنا فيه الانفتاح والتفهم لمتطلبات التغيير والإصلاح، لكن مع الأسف جاءت تصريحاته الأولى مخيبة للآمال ما أجج نيران الثورة أكثر ورفع سقف المطالبة بإسقاط النظام، بالمقابل ازداد العنف في قمع المتظاهرين وبدأت أخبار الاعتقالات تتصدر قائمة الحراك الشعبي في أشهره الأولى”.
وتضيف (سلمى): “كنت في هذا الوقت أعمل مُدرِسّة في مدرسة الهاشمية الإعدادية التابعة لمدينة دوما في الغوطة الشرقية، وقد طالت الاعتقالات بعض الزملاء المدرسين، كما استشهد أحد تلاميذي الذي كنت أسعد بالأهازيج الثورية التي يطلقها في الصف وتشعل فينا الحماس، استشهد على يد قوات النظام أثناء مشاركته في إحدى المظاهرات، كل هذه الأحداث كانت كفيلة بإقناعي بضرورة الثورة على هذا النظام والسعي بكل الطرق للحصول على شيء من حقوقنا كشعب يستحق الحياة”.
وتتابع (سلمى): اندفعت بكل حماس وانخرطت بالعمل الثوري بكل أشكاله، ورغم الحصار الذي تعرضنا له مراراً وتكراراً، وبالرغم من خوف عائلتي الذي وصل بهم إلى منعي من استخدام الهاتف الجوَّال ومنعي من إكمال دراستي في كلية الحقوق، وصولاً إلى منعي من العمل كمدرسة، إلا أن ذلك لم يحل بيني وبين مواصلة نضالي، فبدأت التواصل مع عدد من أصدقائي في مخيم اليرموك والغوطة لكن مع اشتداد الحراك الثوري بالمحافظات الأخرى وتزايد سياسة القمع التي وصلت إلى قصف القرى والمدن والبلدات بدأت العائلات بالهجرة بحثاً عن الأمان، وكانت العاصمة دمشق وجهة لعشرات العوائل النازحة وكان ذلك دافعاً لنا، فقمنا بتشكيل أول فريق يعمل على دعم النازحين وتأمين احتياجاتهم، ومع اشتداد الحراك الثوري وتحول بلدتنا إلى بؤرة للتظاهر كنا هدفاً لمدفعية النظام وقصفه ما دفعني للنزوح لأول مرة خوفاً من القصف”.
وخلال مسيرة سلمى في سنواتها الأخيرة تستذكر قائلة: “بعد توسُّع نشاط الفريق الذي أسسناه لدعم النازحين استطعنا الوصول إلى بعض التجَّار والأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال، وتمكَّنا بعد عناء من تكوين جمعيّة إنسانية تعمل على إغاثة الملهوفين والعائلات النَّازحة من المناطق المشتعلة، ولكن بعد فترة اعتُقل البعض من أعضاء الفريق، منهم من خرج وبعضهم بقي في السجن، ولكن اعتقال عدد من أعضاء الفريق لم يكن عائقاً، ولم يحد من نشاطنا بل كان دافعاً لتحمل مزيد من المسؤولية لتكثيف الجهود وتوسيع النشاط”.
في غياهب السجون
لم يخطر ببال سلمى كونها امرأة ألا تكون هدفاً لقوات النظام، وفي أحد الأيام وأثناء توجهها إلى منطقة “وادي بردى” تفاجأت وهي على أحد حواجز التفتيش التابعة للنظام وهو يأمرها بالنزول، ودهشت أكثر عندما أدركت أنها في عداد المعتقلين، ولم يشفع لها كونها امرأة بل كانت تعامل بمنتهى الوحشية والعنجهية من قبل مخابرات النظام، وأيقنت سلمى أنها بدأت رحلة من الشقاء وهي لا تدري كيف ستكون النهاية فيها، فاقتيدت في بادئ الأمر إلى مركز تحقيق تابع للحرس الجمهوري وكأنها من أصحاب الجنح والجرائم.
وفي غصة وألم تروي (سلمى) تفاصيل اعتقالها قائلة: “نقلت من مركز التحقيق إلى الأمن السياسي، ووضعت في المنفردة حيث أبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، أشهر كأنها أعوام ذقت فيها ألوان العذاب، وتعرضت خلالها للشبح والضرب بالعصي والخراطيم على كامل أنحاء جسدي، قبل أن ينتهي المطاف بي إلى سجن عدرا حيث توقفت رحلة الجحيم، وانتهى التعذيب الجسدي لتبدأ جولة من التعذيب النفسي، ما زالت حاضرة كلما تذكرت وجودي في تلك المعتقلات مع عشرات الأشخاص الآخرين من دون سبب أو جريمة”.
ولعل من لم يعتقل في سجون نظام الأسد لا يمكن أن يتسع عقله لتخيل حجم الكارثة، فلن تستطيع السنوات مهما امتدت أن تمحي آثار 6 أشهر من العذاب مرت بها سلمى وطبعت على جسدها وروحها وقلبها وجعلتها ضائعة مشردة لفترة طويلة عقب خروجها من السجن، وكانت تلك الأشهر كفيلة بتغير كل شيء في حياة سلمى، وخاصة عندما فجعت بأن الفريق الذي كانت تعمل معه قبل الاعتقال لم يبق منه أثر وكل أعضاؤه أصبحوا ما بين شهيد ومعتقل ومختف لا يعرف له مصير.
وما أن استعادت “سلمى” شيء من حياتها وعافيتها حتى عادت شرارة الثورة لتتقد لديها من جديد، مشحونة بعزيمة وإصرار بل وواجب أكسبتها إياه أشهر الاعتقال في ضرورة الوقوف في وجه الظلم والعمل بكل الأدوات لإنقاذ ما أمكن من الضحايا والمعتقلين، ولأن الحياة أقوى من كل الاعتبارات ففي بداية عام 2016 قررت “سلمى” أن تبدأ حياتها من جديد معلنة زواجها، وبدأت بعد ذلك بعام رحلة نزوح جديدة بعيداً عن أهلها وحيها وبلدها، ساعية وراء حلم الحرية ووراء أحلامها في متابعة النضال لإعلاء دور المرأة السورية وتقديم يد العون والمساعدة لكل من يحتاجها، ومن رحم تلك المعاناة ولدت لدى سلمى فكرة تجمع الناجيات لتكون أول تجمع يعنى بشؤون النساء الناجيات من معتقلات النظام.
الناجيات من المعتقل

ظل السجن مرافقا لـ”سلمى” حتى بعد أن تزوجت وأصبحت أماً، واضطرت للنزوح إلى الشمال السوري، ولكنها لم تستسلم لتلك الذكريات الكئيبة بل حاولت جاهدة تقديم المساعدة للناجيات من المعتقلات، فتمكنت من الوصول إلى أكثر من مئة وأربعةٍ وعشرين ناجية من المعتقل، كما وصلت لأسماء بعض المعتقلات اللواتي كن معها في نفس المعتقل وبعضهن قتلن تحت التعذيب.
خضعت “سلمى” خلال وجودها في الشمال السوري لكثير من الدورات الحقوقية والتوثيقية، وتعلمت خلالها أهمية العمل على وجود الشهود والأدلة القانونية على الجرائم التي ترتكب في معتقلات النظام حتى اليوم، وبصحبة عدد من صديقاتها كانت فكرة التحول من الألم والحسرة التي خلفها السجن إلى العمل جدياً من أجل محاسبة المجرم على انتهاكاته، لتكون النتيجة تجمع الناجيات من المعتقلات الذي يعمل الآن على تقديم الدعم لعشرات الناجيات، سيما اللواتي زادت معاناتهن أكثر عقب الخروج من المعتقل بعد أن تخلى عنهن الأهل والزوج، ونبذن بمفردهن وكأنهن هن من اخترن الاعتقال والتعذيب في السجون بداية ثم في المجتمع نهاية المطاف.
ومع جهود “سلمى” وصديقاتها وإصرارهن على أن للمرأة حق كامل في المجتمع، وأنها لا بد أن تواصل نضالها على جميع الجبهات حتى الوصول إليه، تمكنت من تحويل تجمع الناجيات إلى مؤسسة قائمة حصلت على ترخيص رسمي وأصبحت تتابع شؤون أكثر من مئتي ناجية، وتتواصل مع العديد من المنظمات الحقوقية والإنسانية المحلية والدولية، لتأمن احتياجات تلك الناجيات وتوثيق ما تعرضن له من انتهاكات ما تزال مستمرة في سجون النظام إلى اليوم.
جدير بالذكر أن “سلمى سيف” من مواليد حي القابون في مدينة دمشق، ولها من العمر واحد وثلاثون عاماً، وتحمل شهادة من معهد المعلوماتية، وهي متزوجة ولديها طفلة وتقيم مع زوجها وطفلتها في الشمال السوري، بعد أن فرض عليها النزوح والابتعاد عن مسقط رأسها، شأنها في ذلك شأن مئات الأسر والعوائل السورية.