وضحة العثمان
ثمة من قدرت عليه الحياة أن يكون لاجئاً وأن يُمضي شطراً طويلاً من حياته باحثاً عن وطن، ولعل الفلسطينيين خير مثال على ذلك، وتعتبر السيدة (أمل دحبور) تجربة قائمة بما فيها من آلام وأوجاع لم تقتصر على وطنها سوريا، بل تعدته وصولاً إلى بلد تنحدر جذورها منه لم تعرفه ولم تولد فيه إنما عاش معها منذ نعومة أظفارها، وزرعته فيها جدتها التي ماتت وهي تحلم بالعودة إلى بلدها الذي هجرت منه على يد الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، أو فيما بات يعرف بعام النكبة.
غير أن النكبات ما زالت تتوالى على (أمل دحبور) وتعيد إليها ذكريات جدتها بما فيها من غصة وحرقة وألم، لم تكن تدرك معناه عندما كانت تعيشه الجدة، لكن عندما فُرضت عليها الهجرة من سوريا أدركت جيداً مرارة الحياة التي امضتها جدتها شريدة مهجرة بعيدة عن بلادها.

وتقول (أمل): “لحظة خروجنا من سوريا تخيلت جدتي وشعرت بما كانت تشعر به عندما هجرت من بلدها، تذكرت عبارتها، (نحن لما نموت ما رح نتوجع لأن خلص متنا)، ولم أكن أعرف معنى أن يموت الإنسان وهو حي يرزق إلا عندما اضطررت للخروج مهجرة من بيتي، وعندما كنت في طريقي لأول مرة لا أعرف أين أذهب ولا إن كنت سأرجع يوماً”.
تابعت (أمل): “كانت فقط جدتي من يرافقني وما أجد نفسي إلا وأنا أقول لها سامحك الله يا جدتي، أنا عشت الموت مرتين، ربما لم أكن أصدق حجم قهرك وألمك، واليوم أعيشه أضعاف مضاعفة، فمن هجرك كان عدوك، فيما من هجرني أنا ما زال يحمل شعار تحرير فلسطين”.
ولعل فلسطينيي سوريا عاشوا ألم الهجرة من سوريا أكثر من السوريين أنفسهم بحسب ما ترى (أمل) والتي أضافت: “عندما يكون لديك تجربة أولى و جرح سابق تصبح لديك رغبة أكبر بالتمسك في أرضك، ولا يكون بمقدورك عيش الألم مرة أخرى، ولا سيما أنني ولدت في سوريا وعشت فيها وتعلقت فيها وكانت جزء مني على الرغم من أن جدتي أحيت بي فلسطين، وجعلتي ارتبط بها أيضا من دون أن أعرفها”.
وتقول (أمل دحبور) حول أسباب هجرتها وخروجها من سوريا: “تجربة عائلتي في النزوح والتشرد من فلسطين جعلتي أتعلق أكثر في بلدي القصير بريف حمص، بكل ما أملك من قوة، وطالما كنت أخشى أن أعيش شيئاً مما عاشه أهلي، لكني وجدت نفسي ذات يوم أعيد التجربة ذاتها وأنطلق في طريق الهجرة لا أعرف أين أذهب ولا متى أعود، أو إن كان هناك متسع في العمر للعودة، على الرغم من أني رفضت الخروج في بادئ الأمر وتحملت كل ظروف الحرب والقصف خوفاً مما هو أسوأ، التهجير الذي لم يكن لي بد من عيشه وبأسوأ ما يمكن أن يوصف”.
وتضيف (أمل): “مع اشتداد القبضة الأمنية اعتقل زوجي ولم أعرف عنه خبر، وأصبح الخطر يقترب أكثر ولا سيما في ظل وجود بناتي وما يهددهن على يد قوات النظام وعصاباته، وبدأت حينها تراودني فكرة الخروج فلا يوجد شيء أهم من الشرف والكرامة يسعى الإنسان للحفاظ عليه، وفي تلك الأثناء أصيب ابني ونقل للعلاج في لبنان فوجدت حينها السبب الأساسي الذي دفعني للخروج لأول مرة من بيتي وبلدتي، فكانت محطة الهجرة الأولى في الأردن حيث تقيم أختي هناك وتعمل طبيبة”.
رحلة الهجرة لدى (أمل) مرت بمعاناة طويلة ومحطات لم تتوقف في مخيم أو بلدة أو زقاق، بل تجاوزتها بمحطات كثيرة تكتوي في كل منها بمزيد من الأسى والشقاء، لا تغادرها ذكريات جدتها التي يخيل إليها في أحيان كثيرة أنها جدتها، وأن ما يحصل معها تكراراً لرحلة من الألم والمأساة سبق أن شهدتها أو اطلعت عليها، حيث لم تتوقف جدتها من روايتها إلى أن وافتها المنية بعيدة عن تراب بلادها.
وتقول (أمل): “أتمنى أن أنسى تلك اللحظات القاسية ولا أذكرها مرة أخرى، فلم أستطع تقبل فكرة أني مهجرة خارج بلدي حتى الآن، وكذلك تزيد ظروف التهجير وانعدام فرص العمل وارتفاع تكاليف الحياة من مأساتي، بالإضافة لما يترتب عليها من ترك ابني الصغير الدراسة والتحول إلى سوق العمل سعياً وراء لقمة العيش، وهو ما ألقى عليّ مزيداً من الأعباء وأضاف إلى معاناتي معاناة جديدة.
غير أن (أمل) لم تستسلم أو تيأس على ما تحملته من غربة وألم وعذاب، وتمكنت من انتشال أسرتها من براثن الفقر والعوز في أولى محطاتها، وافتتحت محلاً لبيع الخضار والفواكه في الأردن، غير أن القدر ظل معانداً لها، ونتيجة لكثير من الضغوط التي تعرضت لها وأولادها في الأردن، قررت أن تنطلق في رحلة هجرة جديدة وكانت الوجهة تركيا.
الهجرة إلى تركيا لم تكن خياراً إنما فرضاً آخر، بل وزاد من صعوبتها أكثر أنها كانت بداية لتشتت عائلة (أمل) وتباعد أولادها، فقسم من العائلة اضطر للبقاء في مرسين وقسم آخر معها، استقر الحال به في مدينة أنطاكية، في حين تمكن أحد الأبناء من الوصول إلى الإمارات.
غير أن تلك المحطة على الرغم من مرارتها لم تكن المحطة الأخيرة لتشتت (أمل) وعائلتها، فالحياة في تركيا كانت تزيد من معاناتها في سبيل تأمين ظروف الحياة واحتياجاتها، وهو ما دفع أمل إلى وضع قدمها على طريق مرحلة جديدة من الهجرة، والخيار هذه المرة كان الدنمارك.
وعن محطة رحيلها الجديدة قالت (أمل): “لدي أخ يعيش في الدنمارك ألح علي لإرسال أولادي إليه، وفي كل مرة كان يمنعني الخوف من رحلة ركوب البحر، لكن مع صعوبة العيش في تركيا وتردي الواقع المعيشي لم أجد بداً من خوض تلك المغامرة، التي كانت الأصعب في حياتي، ولم تنته إلا مع وصول أولادي سالمين إلى هناك، وبعد فترة من الوقت تمكنوا من لم شملي لأنضم إليهم في الدنمارك وأصل إلى آخر المحطات، والتي أرجو الله أن لا يكون بعدها رحيل آخر إلا إلى بلدي القصير في ريف حمص”.

في الدنمارك تمضي (أمل) حياتها على ذكرايتها المؤلمة في سوريا، والتي لم تتوقف مرارتها يوماً بعد يوم، ولا سيما منذ تعرفت على زوجها بين صور القتلى التي سُربت من سجون النظام ومعتقلاته، بما يعرف باسم صور (قيصر)، ولعل هذا الجانب كان الأكثر إيلاماً في حكاية أمل، التي ما زالت في حالة إنكار حتى الآن وما زالت تصر على أن زوجها حي يرزق، وأنه سيعود يوماً.
وكان على (أمل) ألا تحمل عذاباتها وحسب، بل إن الأحداث التي مرت بها أعادت إليها ذكريات جدتها ولكن هذه المرة أتت الذكريات محملة بجرعة كبيرة من الألم والشقاء، وصار على أمل أن تدرك جيداً وقع كل كلمة من كلمات جدتها وما يقف وراء كل أنةٍ من أناتها الطويلة.
تقول (أمل): “ظلت جدتي حاضرة معي في كل مراحل تشتتي ونزوحي، فتعلقها وحبها لبلدها أصبحت اليوم أحمله مضاعفاً، وصرت أدرك تماماً حقيقة مشاعر تلك المرأة التي ماتت غريبة منكوبة لم يقدر لها العودة إلى بلدها، وبات هذا المصير يخيفني يومياً أن أصل إليه وأموت بعيدة عن تراب سوريا بلد المنشأ، وفلسطين بلد الجذور الذي تمكنت جدتي من زراعته في دمي وروحي”.
ومما لم يزل حاضراً في ذاكرة (أمل) عن جدتها قولها: “ما زلت أرى (البقجة) أمامي، وهي قطعة من القماش وضعت جدتي فيها ملابسها وماتت ولم تقبل إخراج الملابس منها، لأنها كانت على يقين بالعودة في أي وقت وأنها يجب أن لا تعيش حياة الاستقرار وأن تكون مستعدة للعودة على مدار الساعة”.
كما أصرت جدة (أمل) على أن تحافظ على بلادها طوال فترة وجودها في سوريا، فما زالت تطلق على الأشياء ذات الأسماء التي تطلقها عليها في بلدها، فالكثير من أنواع الفواكه كانت تسميهم بأسماء بلدانهم الفلسطينية كالموز الريحاوي، البرتقال اليافاوي وغيرها من أسماء الأراضي والشوارع والأماكن.
وتختتم (أمل) حديثها: “ما زالت عبارة جدتي التي ماتت وهي تلفظها ترافقني في كل مراحل حياتي، ولكنني لم أكن أدرك معانها جيداً، أما اليوم وبعد سنوات من التشتت والتهجير والشقاء والغربة، بت أدرك جيداً تلك العبارة وما تحملها من ألم وعذاب، وما زالت ترن في رأسي وكأن جدتي تقولها الآن (يا بنتي الفلسطينيين مكوب عليهم الشتات طوال العمر).