الرئيسيةرحلة“أحمد شحرور”.. مازلت أحمل حيي معي بعد سنوات من التهجير والفراق
رحلة

“أحمد شحرور”.. مازلت أحمل حيي معي بعد سنوات من التهجير والفراق

التهجير علامة فارقة في جميع المآسي التي عاشتها كثير من شعوب المنطقة، ولعل المأساة السورية كانت أشدها ألماً وأكثرها بؤساً حيث ما زالت مستمرة ومازالت مئات العوائل تدفع الثمن الباهظ وتعيش المأساة بأوجهها المختلفة من قتل واعتقال ونزوح وتشرد وفقر وجوع وبطالة وغيرها، وفي زحمة المعاناة برزت مئات القصص التي يروي أصحابها بغصة وألم تفاصيل مريرة عاشوها وما زالت تصحبهم منذ ساعات رحيلهم عن بلادهم حتى اليوم، وربما تستمر معهم إلى مالا نهاية، ولعل أبو صطيف واحدا من أبرز تلك القصص بعد أن أقنع نفسه أن الحياة لا بد أن تستمر ولو كانت بعيداً عن أحب البقاع إلى قلبه أرضه التي نشأ وترعرع وكبر فيها قبل أن تحول بينه وبينها آلاف الكيلومترات وتصبح العودة حلماً قد لا يدركه فيما بقي له من سنين حياته.

موقع هيومن نيوز التقى “أحمد شحرور” أبو صطيف الذي ينحدر من حي القابون الدمشقي وحاول أن يشاركه شيء من مأساته وأن يستمع إلى بوحه وأناته في الغربة، والتي بدأت منذ خروجه في الباص الأخضر مهجراً إلى الشمال السوري وما زالت مستمرة حتى الآن، وقد حدثنا قائلاً: عام ٢٠١٧ كان عاماً فاصلاً في حياتي لم أتوقع أبداً أن أغادر بلدي مجبراً مكرهاً لا حول لي ولا قوة أنا وكل الذين أجبروا على النزوح معي، فقد كانت رحلة لا عودة فيها، لا أعلم إلى أين أذهب وأي الطرق أسلك، فرض النظام علينا التهجير وكل ما عادت بي الذاكرة إلى تلك اللحظات أحسبها تشبه سكرات الموت، أصعب أنواع القهر التي يمر بها الإنسان ليس هناك شيء أسوأ من اجبارك على مغادرة مدينتك وبيتك وفقد جيرانك وتاريخك ووطنك.

ويسترجع “أبو صطيف” تلك الأيام واللحظات الأخيرة قبل التهجير وأثناء رحلة التهجير ويقول: في الأيام الأخيرة عندما تم الاتفاق على تهجيرنا بعد حصار استمر سنوات وقصف ممنهج أدى إلى دمار معظم المنازل والأحياء والمرافق الخدمية في حي القابون على يد النظام وروسيا وإيران، كان هناك مبادرة لاتفاق أصعب من الموت تحولنا فيه إلى مهجرين طردنا من بيوتنا وأحيائنا.

ويتذكر “أبو صطيف” تلك اللحظات والدموع في عينيه ويروي قائلا: أتى الخبر الحاسم وطلب منا أن نستعد للخروج أو للمصالحة مع من قتلنا ودمر بلادنا، فما كان لنا إلا أن نختار الخروج إلى الشمال السوري، وبدأنا بالتجهيز لذلك فحضر كل واحد منا ما بقي لديه من أغراض وامتعة نجت من القصف والدمار، وعلى حين غرة تجمعنا في مكان الانطلاق، كانت الباصات الخضراء في انتظارنا، كان الخوف والقلق والتوتر هي المشاعر الوحيدة السائدة والمرسومة على وجوه الناس في تلك اللحظة، وكان أشبه بالكابوس المزعج أن تجد نفسك أمام خيارين لا ثالث لهما أما الموت والاعتقال وأما النزوح والتهجير، وكان خيار التهجير بداية لرحلة من الغربة والشقاء مازالت مرافقة لنا حتى الآن.

ويتذكر “أبو صطيف” قائلاً: اليومان الأخيران اللذان أمضيتهما في حي القابون يعادلان عمراً طويلاً حيث ودعت كل الأشياء العزيزة على قلبي لأن شعوراً ما في داخلي كان يحدثني بأن هذه الرحلة لن تنتهي بالأمر السهل وربما ينتهي أجلي ولا أستطيع العودة إلى حيي الذي ولدت وترعرعت فيه وأمضيت فيه جل حياتي، وفي اليوم الأخير صعدت على بقعة مرتفعة تشرف على معظم مناطق حي القابون ووقفت وقفة مودع كنت ألقي نظرة أخيرة على كل المشاهد التي أحفظها وأعرفها وعشت وكبرت عليها كما كان شريط ذكرياتي يمر سريعاً أمام مخيلتي وأنا أراقب الأحياء والحقول والمناطق التي ما زالت جزءاً مني حتى الآن.

كانت رحلة من القلق والتفكير وكنت دائماً أفكر هل سأعود في وقت قريب هل أرى بلدي مرة أخرى كل هذه التساؤلات التي تجول في مخيلتي ليس لها جواب لأن كل ما هو حولي يقول إن الرحلة بلا عودة.

تعلق “أبو صطيف” بحيه وبلده لم يكن حائلاً بينه وبين حياته الجديدة، فمنذ وصل الشمال السوري وانتهى به المطاف مع عائلته إلى مدينة “أريحا” بدأ يرسم ملامح لحياة جديدة، لكنه حاول استحضار كل ما كانت عليه حياته السابقة في حي القابون وذلك حتى يخفف على نفسه شيء من ألم الغربة وعذابها، ففضل أن يعود إلى عمله السابق وإلى نفس الحياة التي كان عليها فيما مضى، ومن أجل ذلك عاد يعمل مسحراتي في شهر رمضان يرتدي نفس الملابس ويردد نفس العبارات، فهذه المهنة كانت الرابط القوي الذي يربطه مع حي القابون وأهله جميعاً وأراد أن يجعلها الرابط بين بلده الجديد وحياته التي بدأت في مدينة “أريحا”.

ويقول “أبو صطيف”: بنيت شبكة كبيرة من العلاقات مع أهالي مدينة “أريحا” وربما أصبحت اليوم جزءاً منها وأصبحت جزءاً مني وحاولت أن أؤثر بها من خلال ما أحمله من عادات وتقاليد جميلة كنت أعيشها في حي القابون وكذلك أتأثر بالعادات والتقاليد الجديدة لأهالي المدينة، غير أن مشاعر الشوق والحسرة ما زالت تراودي بين الحين والآخر وأنا أتذكر حي القابون وحياتي الطولية التي أمضيتها فيه.

وفي نهاية الحديث يقول “أبو صطيف”: لبس هناك بالوجود واقع يمكن أن يعيشه الإنسان أصعب وأشد مرارة من العيش بعيداً عن وطنه الأصلي وخصوصاً عندما لا يملك القدرة على العودة إليه فيكون عليه أن يمضي حياته بالشوق والحسرة والعذاب، ولكن العزاء أن الغاية والهدف التي أوصلتنا إلى هنا تستحق منا أن نضحي، ولا بد أن تنتهي المأساة يوما ما ونجتمع مرة أخرى على تراب أوطاننا وإلى ذلك الحين سنحملها بين ضلوعنا ونبقى على عهدنا حتى الرمق الأخير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *